المراة الكنعانية
مار اغناطيوس زكا الاول عيواص
بطريرك انطاكية وسائر المشرق
الرئيس الاعلى للكنيسة السريانية الارثوذكسية في العالم اجمع
«حينئذ أجاب يسوع وقال لها: يا امرأة عظيم إيمانك ليكن لك كما تريدين فشفيت ابنتها من تلك الساعة»(مت 15: 28)
جاء الرب يسوع إلى عالمنا هذا طبيباً ماهراً فريداً، لم يقم نظيره ولن يقوم شبيهه في الماضي والحاضر والمستقبل، فقد شخّص أمراضنا الجسدية والروحية وصار هو ذاته الدواء الناجع لنا، فبالإيمان به نلنا الشفاء التام. وتتلخّص رسالة الرب يسوع السماوية بتدبيره الإلهي في الجسد بمحبة اللّه للعالم محبة عميقة حتى أنه بذل ابنه الوحيد في سبيل خلاص الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية (يو 3: 16). فالمسيح يسوع إذن هو مخلص البشر كافة، وقد أودع نِعمَ الخلاص رسله الأطهار وتلاميذه الأبرار الذين اختارهم من بين الناس وخرّجهم في مدرسته الإلهية مدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر علّمهم خلالها كيفية معاملة الناس بتواضع ووداعة، والتبشير بالتوبة، وقبول التائبين، والتضحية ونكران الذات ومحبة القريب والغريب، الأقرباء والأصدقاء وحتى الأعداء. ودرّبهم الرب تدريجياً على تقبل مبدأ السعي إلى خلاص جميع البشر دون تمييز بين لون ولون ولغة ولغة. ولكي يوفّق الرب بين ما كان المؤمنون به قد ورثوه من آبائهم من عادات وتقاليد باطلة وبالية وبعيدة عن روح الناموس الإلهي والنبوات الصادقة، وبين رسالة المحبة، وطلب الخلاص لجميع الأمم، منعهم أولاً من دخول مدن السامريين ومعاشرتهم لئلا يصطدموا بتعصبهم. ذلك أن العداء بين اليهود والسامريين كان شديداً، ويذكر الإنجيل المقدس حادثة منع السامريين الرب يسوع وتلاميذه من دخول قرية للسامريين واستشاط يعقوب ويوحنا ابنا زبدي غضباً وطلبا من الرب يسوع قائلين له: «أتريد أن نقول لتنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل إيليا أيضاً، فالتفت وانتهرهما وقال: لستما تعلمان من أي روح أنتما لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليهلك أنفس الناس بل ليخلّص. فمضوا إلى قرية أخرى»(لو 9: 54 ـ 56). ولكن الرب علّمهم السعي إلى خلاص نفوس السامريين عندما خلّص المرأة السامرية على بئر يعقوب، فآمنت به وبشّرت أهل مدينتها مذكّرة إيّاهم بماسيا، فآمنوا هم أيضاً به. أما المرحلة المهمة في دروس المحبة والتسامح وعمومية الخلاص للشعوب كافة فتنجلي في حادثة أخذ الرب تلاميذه إلى أراضي الأمم الوثنية ـ في ضواحي صور وصيدا ـ ليظهر لهم إيمان أولئك الذين كانوا بعيدين عن ناموس موسى.
واليوم تذكر الكنيسة المقدسة في طقوسها امرأة كنعانية سريانية وثنية من تلك الديار، شهد لها الرب يسوع بأن إيمانها عظيم. وبهذا الصدد يذكر الإنجيل المقدس أن الرب يسوع جاء إلى نواحي صور وصيدا «وإذ امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة ارحمني يا سيد يا ابن داود ابنتي مجنونة جداً. فلم يجبها بكلمة، فتقدّم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها لأنها تصيح وراءنا فأجاب وقال لم أرسل إلاّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. فأتت وسجدت له قائلة: يا سيد أعنّي. فأجاب وقال ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب. فقالت نعم يا سيد، والكلاب أيضاً تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها. حينئذ أجاب يسوع وقال لها: يا امرأة عظيم إيمانك ليكن لك كما تريدين فشفيت ابنتها من تلك الساعة»(مت 15: 21 ـ 28).
أجل! أظهرت هذه المرأة الوثنية إيماناً عظيماً لا يضارعه إيمان أولئك الذين كانوا يعدّون مؤمنين بالإله الواحد الأحد، وقد اؤتمنوا على الحفاظ على الناموس الإلهي والنبوات الصادقة. هذه المرأة نزلت إلى حلبة الصراع مع الرب يسوع، وحاورته وسمح الرب أن تظهر وكأنها قد فازت في السباق تماماً، كما غلب يعقوب في القديم ملاك الرب بصراعه معه «لا أتركك إن لم تباركني»(تك 32: 26). لم يُغلب يسوع في كل مصارعاته مع علماء اليهود وناموسييهم، بل كان يُفحمهم بأجوبته السديدة، ولكنه تنازل وسمح الآن بحلم عجيب ووداعة لا حدود لها أن تظهر هذه المرأة الوثنية وكأنها غلبته ليجعل من إيمانها به مثالاً للعالم.
كثيراً ما كان يسوع يوبّخ تلاميذه ويؤنّبهم لقلة إيمانهم قائلاً: «يا قليلي الإيمان»(مت 8: 26 ومت 16: 8 ). وقال مرة لهامة الرسل بطرس: «يا قليل الإيمان لماذا شككت»(مت 14: 31) أما لهذه المرأة الوثنية فقال الرب: «يا امرأة عظيم إيمانك ليكن لك كما تريدين»(مت 15: 28). وتوَّجت المرأة الكنعانية إيمانها بثقتها بقوة الرب يسوع الإلهية، فعلى أثر سماعها قوله «ليكن لكِ كما تريدين» لم تسأله إن كان عليها أن تأتي بابنتها إليه أو أن يذهب هو معها إلى بيتها ليشفي ابنتها. بل آمنت أن مجرد قوله هذا يشفي ابنتها، وفعلاً ذهبت إلى البيت ورأت أن ابنتها قد شفيت من تلك الساعة.
أجل أيها الأحباء: لم يفصّل الإنجيل المقدس هذه الأعجوبة لكونها معجزة اجترحها الرب يسوع، فقد اجترح له المجد معجزات أعظم منها بكثير، ولكن كاتب الإنجيل المقدس يريد أن يلفت نظرنا إلى إيمان هذه المرأة الوثنية ثم يوضّح لنا قوة الشفاعة وثمرة الصلاة لأجل الآخرين المقترنة باللجاجة والتواضع والوداعة والحكمة وعظمة الإيمان المتين الثخين. كانت المرأة في حالة يرثى لها، فقد كانت ابنتها مجنونة جداً، يعذّبها الشيطان، والأم تتألم لرؤية ابنتها معذّبة ولا تستطيع أن تساعدها. ولا بدّ أنها سمعت عن الرب يسوع «ابن داود» والمعجزات التي اجترحها. ولا بدّ أن أناساً أخبروها بأنه قد جاء إلى تخوم صور وصيدا، لذلك خرجت أليه مسرعة وجاءت إليه ساجدة له وهي تستغيث به وتستنجده ليخلّص ابنتها من الشيطان، وكانت تصرخ قائلة: «يا يسوع ابن داود ارحمني» وهي تعلم علم اليقين أن اليهود يبغضون شعبها، بل إنهم حسب تعليم توراتهم يرغبون في إبادة هذا الشعب لئلا يورط أولادهم وأحفادهم بعبادة الأوثان. وكان اليهود يطلقون على ذلك الشعب أسماء قبيحة أخفها وطأة على السمع صفة الكلاب. ولكنها أيضا تعلم أن شعبها يبغض ذلك الشعب اليهودي وترى أن مجيء يسوع إلى ديارها يعني أنه يريد إزالة اللعنة عنها، ومنحها بركته ورغبته في خلاص أهلها. عندما تجاهلها الرب وتظاهر وكأنه لم يسمعها، ازداد صراخها شدة وطلبتها لجاجة.
كثيراً ما نصلي ونصلي ولا نستجاب فنملّ، يجب ألاّ يثنينا عن مواصلة الصلاة عدم الاستجابة السريعة لصلاتنا وعلينا أن نواصل الصلاة بلجاجة كهذه المرأة لتستجاب صلاتنا خاصة إذا كانت مجرّدة عن الأنانية ونقصد فيها منفعة الآخرين. بهذه اللجاجة انتصرت المرأة الكنعانية ونالت مرادها. أجل! عندما طلب الرسل من الرب قائلين: اصرفها إنها تصيح وراءنا، كان يستشف من طلبهم روح الأنانية، فقد ضجروا من صياحها وقالوا للرب إنها تصيح وراءنا. من أنتم أيها الرسل بالنسبة إلى المسيح معلمكم حتى تصيح وراءكم هذه المرأة، لو لم يكن المسيح معكم لما عرفتكم. هكذا يهيمن الغرور على قلوب بعض القادة الروحيين ويظنون أن أتباع المسيح إنما يتبعونهم لذكائهم وفطنتهم وحسن إدارتهم وسعة علمهم ومعرفتهم. فليعلم هؤلاء أن المؤمنين بالمسيح هم للمسيح وأن القادة الروحيين هم خدام المسيح وخدام الشعب المؤمن بالمسيح لأجل المسيح. فالشعب يسير وراء المسيح لا وراءهم. فعلى الوعّاظ والكهنة أن يسعوا إلى خلاص النفوس وليأتوا بالشعب إلى المسيح موجّهين أنظارهم وقلوبهم وأفكارهم إليه، لأنه هو الحية النحاسية قد نصب صليبه في وسط العالم، ليتطلّع إليه الشعب ويخلص. فبدون المسيح يهلك الكاهن والشعب معاً.
وإن الرب يسوع جاء لخلاص العالم أجمع أما معنى قوله: «لم أُرسل إلاّ إلى خراف بني إسرائيل الضالة» فيوضّحه لنا الرسول بولس بقوله عن الرب «صار خادم الختان من أجل صدق اللّه حتى يثبّت مواعيد الآباء»(رو 15: 8) وإن جواب المسيح لرسله: ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب، كان مثلاً جارياً لدى اليهود في تلك الأيام ولذلك فإن تلك المرأة الكنعانية الحكيمة اتخذت منه ذريعة لتدخل نفسها ضمن الذين تشملهم النعمة داخل البيت. فأجابت الرب: نعم يا سيد والكلاب أيضاً تأكل من الفتات المتساقط تحت مائدة أربابها! ما أعظم إيمانها، إنها تكتفي بما يعادل الفتات المتساقط تحت المائدة من نعمة الرب يسوع لشفاء ابنتها. هذه الحكمة المقترنة بالإيمان جعلت الرب يسوع يصدر شهادة من أسمى الشهادات لتلك المرأة بقوله: يا امرأة عظيم إيمانك ليكن لك ما تريدين فشفيت ابنتها من تلك الساعة. وهكذا نرى أن فم الإيمان لا يسكت ولا يصمت ويتقبّل إرادة اللّه وإذا ما تكلم فيتكلم بحكمة فينتصر.
أيها الأعزاء: تعلمنا هذه المرأة أن نهتم بمواصلة الصلاة لأجل الآخرين خاصة إذا كانوا ممن يمتّون إلينا بصلة القرابة الجسدية أو الروحية. لنصلِّ بإيمان لأجل أولادنا الذين قد تلبّسهم شيطان الغرور، ومحبة العالم التي هي شهوة الجسد وشهوة وتعظم المعيشة(1يو2: 16) وإذا ما دخلنا بتجربة بسماح من اللّه فلنصبر ولنواظب على الصلاة بلجاجة كتلك المرأة كي ننال مأربنا الروحي السامي. وعلى رعاة الكنيسة الذين أقامهم الرب ليصلّوا لأجل أنفسهم ولأجل رعاياهم أن يواظبوا على الصلوات بإيمان لأن الشعب بحاجة ماسة إلى الصلاة دائماً أبداً... وعلينا أن نعلم أن استجابة الصلاة لا تعتمد على الرتب الدينية أو الاجتماعية بل على الإيمان المتين الثخين والتسليم الكامل للرب يسوع في كل حين، والاتكال عليه. والإيمان لا يقاس بالعلم الواسع والعقل الراجح بل بالقلب الطاهر والنية الصالحة. فالرب الذي استجاب الكنعانية الوثنية لا بدّ أن يستجيب دعاء المؤمنين البسطاء الأنقياء الأتقياء إذا كان هذا الدعاء مقروناً بالتواضع والحكمة واللجاجة. تقبّل الرب صلواتكم وشفاكم من أمراضكم الروحية والجسدية بنعمته آمين.
|